الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{إن المجرمين} أي: المشركين القاطعين لما أمر الله تعالى أن يوصل {في ضلال} أي: هلاك بالقتل في الدنيا {وسعر} أي: نار مسعرة أي مهيجة في الآخرة وقيل: {في ضلال} أي: عمى عن القصد بالبعث وسعر. قال الضحاك أي: نار تسعر عليهم وقيل ضلال ذهاب عن طريق الجنة في الآخرة، وسعر جمع سعير نار مسعرة وقال الحسين بن الفضل: إن المجرمين في ضلال في الدنيا ونار في الآخرة. وقال قتادة: في عناء وعذاب.ثم بين عذابهم في الآخرة بقوله تعالى: {يوم يسحبون} أي: في القيامة إهانة لهم من أي ساحب كان {في النار} أي الكاملة النارية {على وجوههم} لأنهم في غاية الذل والهوان جزاء بما كانوا يذلون أولياء الله تعالى مقولا لهم من أي قائل اتفق {ذوقوا} لأنه لا منعة لهم ولا حمية بوجه {مَسَّ سقر} أي: حرّ النار وألمها فإن مسها سبب للتألم بها، وسقر علم لجهنم مشتقة من سقرته الشمس أو النار أي لوحته ويقال: صقرته بالصاد وهي مبدلة من السين قال ذو الرمة:
وعدم صرفها للتعريف والتأنيث. وقال بعض المفسرين: إنّ هذه الآية نزلت في القدرية لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «مجوس هذه الأمة القدرية» وهم المجرمون الذين سماهم الله تعالى في قوله سبحانه: {إنّ المجرمين في ضلال وسعر} وفي مسلم عن أبي هريرة قال: «جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر فنزلت هذه الآية إلى آخرها» قال الرازي: والقدري هو الذي ينكر القدر وينسب الحوادث لاتصالات الكواكب لما مرّ أنّ قريشًا خاصموا النبيّ صلى الله عليه وسلم في القدر، ومذهبهم أن الله تعالى مكن العبد من الطاعة والمعصية وهو قادر على خلق ذلك في العبد وقادر على أن يطعم الفقير ولهذا قالوا: أنطعم من لو يشاء الله أطعمه منكرين لقدرته تعالى على الإطعام.وقوله صلى الله عليه وسلم: «القدرية مجوس هذه الأمة» إن أريد بالأمة المرسل إليهم مطلقًا كالقوم فالقدرية في زمانه صلى الله عليه وسلم هم المشركون المنكرون قدرته على الحوادث فلا يدخل فيهم المعتزلة؛ وإن كان المراد بالأمة من آمن به صلى الله عليه وسلم فمعناه أن نسبة القدرية إليهم كنسبة المجوس إلى الأمة المتقدمة؛ فإنّ المجوس أضعف الكفرة المتقدّمين شبهة وأشدّ مخالفة للعقل وكذا القدرية في هذه الأمة؛ وكونهم كذلك لا يقتضي الجزم بكونهم في النار فالحق أنّ القدري: هو الذي ينكر قدرة الله تعالى وقد ردّ عليهم بالكتاب والسنة.أما من الكتاب فقوله تعالى: {إنا} أي: بمالنا من العظمة {كل شيء} من الأشياء المخلوقة صغيرها وكبيرها {خلقناه بقدر} أي: قضاء وحكم وقياس مضبوط وقسمة محدودة وقوّة بالغة وتدبير محكم في وقت معلوم ومكان محدود مكتوب ذلك في اللوح قبل وقوعه.وأمّا من السنة: فما روى عبد الله بن عمرو بن العاص: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كتب الله مقادير الخلائق كلها قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف عام قال وعرشه على الماء. وعن طاووس اليماني قال: أدركت ما شاء الله تعالى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون كل شيء بقدر الله تعالى؛ قال: وسمعت من عبد الله بن عمرو يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل شيء بقدر حتى العجز والكيس أو الكيس والعجز» وعن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن بالله عبد حتى يؤمن بأربع: يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله: بعثني بالحق، ويؤمن بالموت، والبعث بعد الموت، ويؤمن بالقدر؛ وزاد عبد الله خيره وشره».تنبيه:{كل شيء} منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر، ولما بين سبحانه وتعالى أنّ كل شيء بفعله بيّن يسر ذلك وسهولته عليه بقوله تعالى: {وما أمرنا} في كل شيء أردناه وإن عظم أمره {إلا واحدة} أي: فعلة يسيرة لا معالجة فيها وليس هناك أحداث قول لأنه قديم بل تعلق القدرة بالمقدور على وفق الإرادة الأزلية؛ وقيل إلا كلمة واحدة وهي قوله تعالى: {كن} كما قال تعالى: {إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} [النحل:].ثم مثل لنا ذلك بأسرع ما نعقله وأخفه بقوله تعالى: {كلمح بالبصر} واللمح النظر بالعجلة وفي الصحاح لمحة وألمحه إذا أبصره بنظر خفيف أي فكما أن لمح أحدكم بصره لا كلفة عليه فيه فكذلك الأفعال كلها عندنا بل أيسر؛ وعن ابن عباس معناه: وما أمرنا بمجيء الساعة في السرعة إلا كطرف البصر.{ولقد أهلكنا} أي: بما لنا من العظمة {أشياعكم} أي: أشباهكم ونظراءكم في الكفر من الأمم السابقة والقدرة عليكم كالقدرة عليهم فاحذروا أن يصيبكم ما أصابهم ولذلك سبب عنه قوله تعالى: {فهل من مدكر} أي بما وقع لهم أنه مثل من مضى بل أضعف وأنّ قدرته تعالى عليه كقدرته تعالى عليهم ليرجع عن غيه خوفًا من سطوته والاستفهام بمعنى الأمر أي ادكروا واتعظوا.{وكل شيء فعلوه} قال الجلال المحلي: أي: العباد. وقال أكثر المفسرين: أي: الأشياع لأنه هو المتقدم ذكره {في الزبر} أي مكتوب في دواوين الحفظة. وقيل: في اللوح المحفوظ. وقيل: في أم الكتاب فلتحذروا من أفعالهم فإنها غير منسية هذا ما أطبق عليه القراء بما أدى إلى هذا المعنى من رفع كل لأنه لو نصب لأوهم تعلق الجار بالفعل فيوهم أنهم فعلوا في الزبر كل شيء من الأشياء وهو فاسد.{وكل صغير وكبير} أي: من الخلق وأعمالهم وآجالهم {مستطر} أي: مكتوب في اللوح المحفوظ.ولما وصف الكفار وصف المؤمنين مؤكدًا ردًا على المنكر فقال عز من قائل: {إنّ المتقين} أي: العريقين في وصف الخوف من الله الذي وفقهم لطاعته {في جنات} أي: خلال بساتين ذات أشجار تستر داخلها وقوله تعالى: {ونهر} أريد به الجنس: لأن فيها أنهارًا من ماء وعسل ولبن وخمر؛ أفرده لموافقة رؤوس الآي ولشدة اتصال بعضها ببعض فكأنها شيء واحد. والمعنى: أنهم يشربون من أنهارها وقيل: هو السعة والصفاء من النهار.وكما جعل للمتقين في تلك الدار ذلك جعل لهم في هذه الدار أيضًا جنات العلوم وأنهار المعارف ولهذا كانوا {في مقعد صدق} أي حق لا لغو فيه ولا تأثيم، ولم يقل في مجلس صدق، لأنّ القعود جلوس فيه مكث ومنه قواعد البيت والقواعد من النساء ولذا قال: {عند مليك} أي: ملك تام الملك {مقتدر} أي: قادر لا يعجزه شيء وهو الله تعالى. وعند إشارة للرتبة والكرامة والمنزلة من فضله تعالى، جعلنا الله تعالى ومحبينا منهم.وما رواه البيضاوي تبعًا للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة القمر في كل غبّ ـ أي يقرأ يومًا ويترك يومًا ـ بعثه الله تعالى يوم القيامة ووجهه مثل القمر ليلة البدر». حديث موضوع. اهـ.
|